يمكن وصف الفكرة التي تدور بأذهان البعض بأنه يمكن للحكومات حظر البيتكوين بطريقة ما بأنها المرحلة الأخيرة من حالة الإنكار، وهي مرحلة تأتي مباشرة قبل التسليم بالأمر الواقع وبدء قبوله. والنتيجة النهائية لهذه المراحل ستُتَوَّج بالقبولِ والاعتراف بأن البيتكوين “يعمل”. في الواقع، إنها تفترض أن البيتكوين سيعمل بشكلٍ جيد لدرجةِ أنه سيهدد الاحتكارات الحكومية الحالية التي تُصدِر النقد وتتحكم فيه، عندها وبعد حدوث ذلك، ستقوم الحكومات بمحاولة وضع البيتكوين تحت طائلة اللوائح التنظيمية وذلك من أجل تحييد تهديده والقضاء عليه. ولهذا، عندما نتأمَّلُ بطريقةِ المنطق المشروط في هذا الادِّعاء القائل أن الحكومات ستحظر البيتكوين، فإننا سنصل للشَّرطَين الآتيين: هل يعمل البيتكوين كنقد بشكل فَعَّال؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلن يكون لدى الحكومات شيء لتحظره. أما إذا كانت الإجابة نعم، فعندها ستحاول الحكومات حظره. أي أن أساس وجوهر هذا الانتقاد يفترض أن البيتكوين سيؤدي دوره كنقد بشكل فَعَّال. ولهذا، يصبح السؤال عما إذا كان هذا التدخل الحكومي سينجح في إفشال عملة البيتكوين التي تعمل أصلاً في تلك الفترة مستقبلاً.
بدايةً، إن أي شخص يحاول فهم كيفية عمل البيتكوين، أو لماذا، أو إذا ما كان البيتكوين يعمل فعلاً، فيتوجب عليه أولاً تقييم هذه المسائل بشكلٍ مستقلٍ تماماً عن الآثار المترتبة من التدخلات والقواعد التنظيمية الحكومية. وبينما سيتعيَّن، بلا شك، على البيتكوين التعايش جنباً إلى جنب مع مختلف النُّظم الرقابية، لكن لنتخيل لبرهةٍ أن الحكومات لم تتواجد على الإطلاق، وعندها سيكون المشهد كالآتي: إذا كان البيتكوين قائماً لوحده في سوقٍ حرة، فهل سيعمل كنقد بشكل فَعَّال؟ إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال ستطرح حتماً عدداً من الأسئلة الجوهرية والمعقدة مثل: ما هو النقد؟ ما هي السمات والخصائص التي تجعل وسيطاً معيناً مناسباً لاستخدامه كشكلٍ من أشكال النقد أو تجعله سيئاً؟ هل يمتلك البيتكوين هذه السمات والخصائص؟ هل يُعدُّ البيتكوين نموذجاً ممتازاً من النقد بناءً على هذه الخصائص الموجودة به؟ إذا كانت النتيجة النهائية لكل هذه الأسئلة هي أن البيتكوين لا يعمل كنقد فَعَّال، فعندها يمكن القول إن الآثار المترتبة على التدخلات الحكومية ليس لها أي أهمية. ولكن إذا كان البيتكوين فعَّالاً كنقد، عندها يصبح هذا السؤال جوهرياً في هذا الطرح، وأي شخص يبحث في هذه المسألة سيتوجب عليه توظيف هذا السياق المذكور أعلاه كمعيارٍ أساسي لتقييم ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا.
فحسب تصميمه، يتواجد البيتكوين خارج حدود الحكومات، ولا يقع تحت سيطرتها، فهو يؤدي دوره دون تنسيقٍ من أي طرفٍ ثالثٍ مركزي، فهو عالمي ولا مركزي، ويمكن لأي شخص استخدامه والوصول إليه دون إذنٍ من أي أحد. وكلما يزداد انتشاره، تزداد صعوبة فرض الرقابة على شبكته. فمعمارية البيتكوين قد تم تصميمها خصِّيصاً لغرضِ مقاومة ومنع أي محاولاتٍ من قبل الحكومات لحظره. لكن هذا الأمر لا يعني أن الحكومات في جميع أنحاء العالم لن تحاول تنظيم استخدامه، وفرض الضرائب عليه، أو حتى حظره. لهذا، حتماً ستكون هناك معارك شرسة لمقاومة تَبنِّيه، فلن يقف البنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة (ونظرائهما العالميين) مكتوفي الأيدي بينما يتزايد تهديد البيتكوين لاحتكارهم في إصدار النقود الحكومية. مع ذلك، وقبل تفنيد فكرة أن الحكومات يمكنها حظر البيتكوين بشكل كلي، علينا أولاً أن نفهم عواقب هذا الطرح.
تَطوُّر الإنكار ومراحل الحزن
إنَّ سرد وخطاب المشككين يتغير باستمرارٍ بمرور الوقت، بحيث تكون المرحلة الأولى من مراحل الحزن كالآتي: لا يمكن للبيتكوين أن ينجح أبداً – وذلك لأنه غير مدعوم من قبل أي شيء، فهو شبيهٌ بفقاعة «التوليب» في وقتنا الحاضر. ومع كل دورة حماسية، ترتفع قيمة البيتكوين بشكل كبير ثم يتبعها تصحيح للسعر بعد ذلك، والذي غالباً ما يتم تضخيمه وتصويره من قبل المشككين على أنه انهيار في السعر. لكن وفي كل مرة، ينجو البيتكوين من “الموت”، بل ويجد دعماً عند مستوياتٍ أعلى من موجات التَّبني في الدورات السابقة. لهذا، ولكثرة ترديد هذه الديباجة، فقد تم استهلاك سردية فقاعة «التوليب» من قبل المشككين لتتحول بعد ذلك للتركيز على أمورٍ مبهمة لا غاية من نقاشها، ولكنهم مستمرون بذلك من أجل تغيير أساس وقواعد النقاش. أما في المرحلة الثانية من الحزن، فإن خطابهم يصبح كالآتي: إن البيتكوين به عيوب كثيرة ولا يصلح لأن يكون عملة، فهو متقلب للغاية بسعره ليكون نقداً، أو أنه بطيء جداً ليكون نظاماً للمدفوعات، أو لا يمكن استخدامه على نطاقٍ واسع لتسوية جميع المدفوعات في العالم، أو إنه يهدر الطاقة، وقائمة الحجج هذه تَطُول. إن هذه المرحلة الثانية هي تَطوُّرٌ في شكلِ الرفض، وهي خروجٌ هام عن الفكرة الأولية التي كانت لديهم عن البيتكوين بأنه لا شيء.
لكن وعلى الرغم من ترديدهم لهذه العيوب المزعومة، فإن قيمة شبكة البيتكوين تستمر في الارتفاع بمرور الوقت. وفي كل مرة لا “يموت” فيها البيتكوين، فهو يكتسب قوة وصلابة. وبينما ينشغل المشككون في ذكر هذه العيوب المزعومة، يستمر البيتكوين في العمل. ويمكن تلخيص ديناميكية السوق البسيطة للغاية التي تُسبِّب الزيادة في القيمة بالآتي: إن عدد المشترين أكبر من عدد البائعين، وهذه هي كامل القصة بكل بساطة، وهي معادلةٌ واضحة للزيادة الحاصلة في أعداد المتَّبنين. فالمزيد من الأشخاص باتوا يدركون السبب الجوهري لوجود الطلب على البيتكوين، بالإضافة إلى إدراكهم لكيفية عمله والهدف من هذا العمل، وهذا الأمر هو ما يخلق طلباً طويل الأمد على البيتكوين. ورغم تزايد الطلب عليه كمخزنٍ للثروة، إلا أنه لا يمكن زيادة عرضه، حيث أن أقصى عرضٍ لعدد عملاته هو 21 مليون عملة بيتكوين لا يمكن زيادتها بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين يطلبونها، فالعرض ثابت وغير مرنٍ بتاتاً. وبينما يستمر المشككون في إحداث ضجَّتهم وترديد الديباجة ذاتها التي أصبحت مبتذلة، تستمر الجماهير في تجاهل تلك الضوضاء، وفي زيادة الطلب على البيتكوين نظراً لمواطن القوة الموجودة في خصائصه النقدية. ويُعدُّ أنصار البيتكوين الأكثر دراية فيما يخص النقاشات الدائرة ضده، وهم الأكفأ لدحض العيوب المزعومة بشأنه.
تبدأ علامات اليأس في الظهور، ويتم فتح النقاش مرة أخرى، وكالعادة وبشكل متوقع تتغير سردية المشككين، لكن هذه المرة لم تعد سرديتهم ترتكز على أن البيتكوين غير مدعومٍ بأي شيء وأنه مَعيب كعملة؛ وبدلاً من ذلك، سترتكز سرديتهم هذه المرة على الجهات التنظيمية والسُّلطات الحكومية. ففي المرحلة الأخيرة من مراحل الحزن، والتي يعمل فيها البيتكوين بشكل جيد للغاية، سَيدَّعي هؤلاء المشككين أنه نتيجة لهذا العمل الجيد للبيتكوين، ستتدخل الحكومات ولن تسمح باستمرار عمله، بل وستحظره. حقاً؟! إن ادِّعاء المشككين يقول الآتي: ستُعيد العبقرية البشرية اختراع النقد بطريقة ما ليكون في أسمى نموذجٍ له بشكل تقني ليتم استخدامه كوسيطٍ للتبادل، لدرجةٍ لا يمكن لنا تَصوُّر آثار هذا الابتكار وفوائده، لتتحرك الحكومات بعد ذلك لتحظره؟ في هذه اللحظة، وعندما يتم تداول هذا السرد، يمكننا التَّيقن أن المتشككين أنفسهم قد أقرُّوا بالهزيمة. فهذه الادعاءات العقيمة في النقاشات تشبه الأنين والآهات عند الموت. لكن عندها وبالوقت ذاته، سيبدأ المشككون في الاعتراف بأن هناك طلباً جوهرياً على البيتكوين، ومن ثم ستتحول سرديتهم إلى اعتقادٍ لا أساس له بأن الحكومات يمكنها أن تحظره.
لنفكر بالآتي: متى بالضبط ستتحرك حكومات العالم المتقدم لتحاول حظر البيتكوين؟ ففي الوقت الحاضر، لا ينظر البنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة إلى البيتكوين باعتباره تهديداً جدياً لهيمنة الدولار. فهؤلاء يتشاركون العقلية ذاتها، ويعتبرون البيتكوين لعبةً صغيرة لطيفة، ولا يصلح لأن يكون عملة. فحتى يومنا هذا، تبلغ القوة الشرائية لشبكة البيتكوين ما يقارب الـ 200 مليار دولار. ومن ناحية أخرى، تبلغ القوة الشرائية للذهب حوالي 8 تريليون دولار (40 ضعف البيتكوين)، ويبلغ المعروض النقدي بمعناه الواسع للدولار (M2) حوالي 15 تريليون دولار (75 ضعف البيتكوين). لهذا، يصبح السؤال كالآتي: متى سيبدأ البنك الاحتياطي الفيدرالي أو وزارة الخزانة بأخذ البيتكوين على محمل الجد واعتباره تهديداً حقيقياً؟ هل سيحدث ذلك عندما تبلغ إجمالي القيمة السوقية للبيتكوين 1 تريليون دولار؟ 2 تريليون دولار أم 3 تريليون دولار؟ لا نعرف ذلك تحديداً، ولكن هذا ضمنياً يعني أن قيمة البيتكوين ستكون مرتفعة، وعندها سيمتلك البيتكوين عددٌ كبير من الناس على مستوى العالم، لدرجةٍ لن تجدي عندها تحركات السلطات الحكومية ضده، حتى ولو اعتبرته منافساً أو تهديداً لها.
وهذا ما قاله كلٍ من الرئيس «ترمب» ووزير الخزانة «مونشين» على البيتكوين (2019)
لهذا، يمكن تصوير منطق المشككين بالآتي: إن البيتكوين لا يعمل، ولكن إذا عمل ونجح، فستحظره الحكومات. وهذا يعني أن الحكومات في العالم الحر لن تحاول حظر البيتكوين إلا بعد أن يُمثِّل تهديداً واضحاً لها. لكن جديرٌ بالذكر أنه إذا عمل البيتكوين، فستكون قيمة عملته في ذلك الوقت مرتفعة، وبلا شك، سيَصعُب حظره، حيث سيحتفظ به عدد كبير من الأشخاص في كل بقاع العالم. لذلك، سنتجاهل التباين والاختلافات الأساسية القائمة في المناسبات والفعاليات العالمية المهتمة بتسييل النقد، وذلك لأن الجميع في هذه المناسبات يكون محقاً، حيث ستتدخل الحكومات لتنظيم البيتكوين برأيهم. ولكن إذا تأملنا قليلاً، فإلى أي معسكر ستتجه الجهات الاقتصادية العقلانية؟ هل ستتجه للمعسكر الذي ينادي بامتلاكِ أصلٍ نقدي ازدادت قيمته بشكل كبير لدرجةِ أنه سيهدد العملة الاحتياطية العالمية، أو ستتجه إلى المعسكر المضاد الذي يدعو لعدم امتلاك هذا الأصل؟ بافتراضِ أن الفرد يمتلك المعرفة الكافية لفهم وإدراك سبب كونها احتمالية كبيرة (وإمكانية متزايدة)، عندها، من هو المعسكر الأكثر منطقية والذي يمكن الدفاع عنه؟ إن التباين وحده سيُملي علينا الخيار الأول، وأي فهمٍ جوهري عميق للطلب القائم على البيتكوين سنجده يعزز المعسكر ذاته.
لا يمكن حظر البيتكوين
لنتأمل ما يمثله البيتكوين بالواقع، ثم لنتأمل ما قد تمثله عملية حظره. إن البيتكوين يمثل تحويل قيمةِ ذاتية غير موضوعية لمدخلاتٍ رقمية، وهي قيمة تم إنشاؤها وتبادلها في العالم الحقيقي. وبتعبير آخر أكثر دقة، إنه تحويلُ وقتِ الفرد إلى نقد. فعندما يطلب شخصٌ ما البيتكوين، فإنه في الوقت ذاته يتخلى عن طلبٍ آخر لبعض السلع الأخرى، سواء أكان هذا الطلب للدولار أو لمنزل أو لسيارة أو لطعام… فيمثل البيتكوين المدخرات النقدية التي تأتي مع تكلفة الفرصة البديلة للسلع والخدمات الأخرى، وحظر البيتكوين سيكون تحدياً لأبسط الحريات والحقوق التي تم انتزاعها من أجل العطاء والتوفير. لنتخيل رد فعل جميع أولئك الذين تَبنُّوا البيتكوين: “حسناً، لقد كان ذلك ممتعاً، إن تلك اللعبة التي قال الخبراء إنها لن تعمل أبداً، اتَّضح أنها تعمل الآن بشكل جيد للغاية، وما زال الخبراء ذاتهم بالإضافة للسلطات ذاتها يقولون لنا أننا لا نستطيع استخدامه. هيَّا، فلتذهبوا جميعاً لمنازلكم، لقد انتهت لعبة البيتكوين”. إن الاعتقاد، بأن جميع الأشخاص في العالم ممن تَبنُّوا البيتكوين من أجل الحرية المالية وتحقيق السيادة الفردية التي يوفرها البيتكوين سيخضعون فجأة للسلطات وسيتخلون عنه، وسيقبلون بهذا التعدي الصارخ على حريتهم، هو اعتقاد ليس عقلانياً.
“النقد هو أحد أعظم أدوات الحرية التي اخترعها الإنسان على الإطلاق. فلقد أعطى هذا النقد للمجتمعات القائمة نطاقاً هائلاً من الخيارات للفقراء – نطاق أكبر من كل تلك النطاقات التي كانت متاحة للأجيال السابقة من الأثرياء.. “ -« فريدريك هايك».
لم تنجح الحكومات في حظر استهلاك الكحول، أو تعاطي المخدرات، أو شراء الأسلحة، أو حظر مُلكية الذهب. فيمكن للحكومات أن تُقيِّد الوصول لهذه الأشياء لدرجة ما، أو حتى أن تجعل حيازتها أمراً مخالفاً للقانون، ولكنها لا تستطيع بطريقة سحرية إخفاء وإزالة شيء له قيمة، بل وشي يتم طلبه من قبل مجموعةٍ واسعةٍ ومتباينة من الناس. فعندما أصدرت الولايات المتحدة قانوناً يُجرِّم الملكية الخاصة للذهب ويجعلها غير قانونية عام 1933، لم يفقد الذهب قيمته أو يختفي كوسيطٍ نقدي. في الواقع، لقد ازدادت قيمته بالنسبة للدولار، وبعد ثلاثين عاماً فقط، تم رفع هذا الحظر عنه. أما البيتكوين، فإنه لا يقدم فقط قيمة مقترحة أكبر عند مقارنته بالسلع الأخرى التي حاولت الحكومات حظرها (بما في ذلك الذهب)؛ لكن وبحكم طبيعته، فسيكون من الصعب حظره. فالبيتكوين هو عملة عالمية غير مركزية، فهو بلا حدود، ويتم تأمينه بوساطة العُقد والمفاتيح المُشفَّرة. فعملية حظر البيتكوين تتطلب منع تشغيل الكود البرمجي مفتوح المصدر، ومنع بث التوقيعات الرقمية على الإنترنت (تلك التوقيعات التي تم إنشاؤها بوساطة المفاتيح المُشفَّرة)، وسيتعيَّن تنسيق ذلك عبر العديد من الجهات والولايات القضائية، ولكن جديرٌ بالذكر أنه لا يوجد هناك طريقة لمعرفة أماكن وجود هذه المفاتيح، ولا يوجد طريقة لمنع ظهور المزيد من العقد في ولايات قضائية أخرى. وبوضعنا المسائل الدستورية جانباً، فسيكون من غير العملي من الناحية التقنية فرض حظرٍ على عملات البيتكوين بأي طريقة كانت.
تركيزُ عُقَدِ البيتكوين حسب الدولة (earn.com)
حتى لو نَسَّقت جميع الدول في “مجموعة العشرين” فيما بينها لحظره، فلن “تقتل” البيتكوين. وبدلاً من ذلك، سيصبح أمراً واقعاً على النظام المصرفي القائم على العملات الحكومية. وسيتعزز لدى الجماهير القناعة بأن البيتكوين هو عملة قوية وصلبة، وستبدأ اللعبة العالمية بشكلٍ يائس لحظر البيتكوين تماماً كمن يحاول مسك الهواء بيديه. ففي البيتكوين، لا توجد نقطة فشلٍ مركزية؛ حيث أنه يتوزع كلٍ من مُعدِّني البيتكوين، العُقد، والمفاتيح في جميع أنحاء العالم. فكل جانب من البيتكوين هو جانب لا مركزي، وهذا أمر جوهري وأساسي في إدارة العقد والمفاتيح في البيتكوين. وكلما سيزداد عدد المفاتيح وعدد العقد القائمة، ستزداد معها لا مركزية البيتكوين، وستزداد معها قوته وصلابته من الهجمات. وكلما سيزداد عدد الولايات القضائية التي تتواجد بها عمليات التعدين، ستقل المخاطر التي قد تمثلها أي ولاية مفردة لأمان البيتكوين. ولهذا، إن حَدثت هجمةٌ منسقة على مستوى الدول، فلن يؤدي ذلك إلَّا إلى زيادة قوة وصلابة “المناعة” في البيتكوين. وسيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى تسريع الانتقال بعيداً عن النظام المالي القديم (والعملات القديمة)، وسيُسرِّع الابتكارات داخل نظام البيتكوين الاقتصادي. ومع صمود البيتكوين أمام كل التهديدات التي طالته، فإن البيتكوين ما زال يبتكر لتحييد تلك التهديدات، ولن يكون الهجوم المنسَّق على مستوى الدول أمراً مختلفاً عن الهجومات السابقة.
إن هذه الابتكارات التي لا تحتاج إذناً من أحد والتي تتم على أساس عالمي لا مركزي هي السبب وراء اكتساب البيتكوين كل هذه القوة والصلابة من كل هجومٍ تَعرَّض له. فقوة الهجومات هي ذاتها التي تتسبَّب في استمرار ابتكار البيتكوين، وكأن البيتكوين يأخذ عقاقيراً منشطة خفية. وقد تعتقد الجهات الفاعلة الفردية أنها تعمل لصالحِ قضيةٍ كبرى، لكن وفي الواقع، إن الفوائد والمنافع المتأصلة في البيتكوين تخلق تركيباً وهيكليةً لها حافز قوي بما يكفي لضمان بقائها. فالمصالح الشخصية لملايين الأفراد، إن لم يكن المليارات، والذي لا يوجد بينهم تنسيق مسبق، ولكنهم متوافقون على احتياجهم الفردي والجماعي للنقد، تُحفِّز الابتكارات القائمة على البيتكوين والتي لا تحتاج إذناً من أحد. واليوم، قد يبدو الأمر وكأنه تقنية جديدة رائعة أو استثمار لطيف لإضافته لسلة الاستثمار، لكن حتى ولو لم يعرفه معظم الناس، فسيبقى البيتكوين ضرورة. إنه ضرورة لأن النقد ضرورة، ولأن العملات القديمة أصبحت بالية في جوهرها. فقبل شهرين، انهارت أسواق «الريبو» في الولايات المتحدة، واستجاب الاحتياطي الفيدرالي بشكل سريع لهذا الانهيار، وقام بزيادة المعروض من الدولارات بمقدار 250 مليار دولار، مع زيادة أخرى متوقعة في المستقبل. ولهذا السبب بالذات، إن البيتكوين ضرورة وليس رفاهية. فعندما يصدف بأن يكون الابتكار ضرورةً أساسية لكي يؤدي الاقتصاد وظيفته، لن تستطيع أي قوة حكومية إيقاف انتشاره. فالنقد هو ضرورة أساسية جداً، ويمثل البيتكوين “ابتكاراً خطياً” في المنافسة العالمية على النقد.
أما من الناحية العملية، فأي محاولةٍ لحظر البيتكوين أو تقييد استخدامه بشكل فظ وذلك بوضعه تحت طائلة اللوائح القانونية عن طريق السلطات القضائية ستفيد بشكلٍ مباشر الولايات القضائية المنافسة لتلك الولاية. ولهذا، ستكون الحوافز للانشقاق عن أي جهودٍ لتنسيق حظر البيتكوين مرتفعةً جداً. فمثلاً، إذا أقرَّت الولايات المتحدة غداً قانوناً يُجرِّم امتلاك البيتكوين ويجعله غير قانوني، فهل سيؤدي ذلك إلى إبطاء انتشاره، وتطوُّره وتَبنِّيه؟ وهل سيؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة الشبكة بين الحين والآخر؟ غالباً نعم، ولكن يبقى السؤال إذا ما كان ذلك سيقتل البيتكوين، والجواب هو: لا. فالبيتكوين يمثل أكبر رأس مال قابلٍ للنقل في العالم. ولهذا، إن الدول والولايات القضائية التي تخلق بيئاتٍ تنظيمية واضحة وجديرة بالثقة، وتضع أقل قدرٍ ممكنٍ من القيود على استخدام البيتكوين ستستفيد بشكل كبير من تدفقاتِ رأس المال.
حظرُ مُعضلةِ سجينِ البيتكوين
عملياً، إن معضلة السجين هي ليست معضلة واحد لواحد، إنها معضلةٌ متعددة الأبعاد وتشمل عدة ولايات قضائية لجميعها مصالحٌ متنافسة، مما يُصعِّب بشكل كبير نجاح أي محاولاتٍ لحظر البيتكوين من الناحية العملية، بحيث سيتدفق كلٍ من رأس المال البشري، رأس المال المادي، ورأس المال النقدي إلى الدول والولايات القضائية ذات اللوائح التنظيمية الأقل تقييداً على البيتكوين. ولن يحدث ذلك بين عشيِّةٍ وضحاها، فمحاولة حظر البيتكوين تشبه قيام دولة بقطعِ أنفها نكايةً بوجهها. ولكن هذا لا يعني أن الدول لن تحاول حظره. فقد حاولت الهند بالفعل حظر البيتكوين، كما حاولت الصين أيضاً تقييد استخدامه بشكل كبير، وستقوم بقية الدول بفعل ذلك. لكن وفي كل مرة اتَّخذت فيها دولة ما إجراءً لتقييد استخدام البيتكوين، كان لذلك الفعل تأثير غير مقصودٍ في الترويج لتبني البيتكوين. فمحاولات حظر البيتكوين تُعدُّ أداة تسويقية فعالة للغاية له. فالبيتكوين قائم بذاته كشكلٍ نقديٍ غير سيادي ومقاوم للرقابة، فهو مُصمَّم ليكون قائماً خارج حدود وصلاحيات الدول، وكل محاولات حظره ستعمل على تعزيز أسباب وجوده، وفي نهاية المطاف، ستزداد قيمته.
الحركة الوحيدة الرابحة هي المشاركة باللعبة
إن حظر البيتكوين هو أمر ساذج وغبي، ومع هذا، سيحاول البعض حظره، ولكنهم سيفشلون جميعاً، بل وستؤدي محاولات حظره إلى تسريع تَبنِّيه وانتشاره، وستكون سرعة انتشاره فائقة جداً، كما أنها ستجعل البيتكوين أقوى وسيصبح جديراً بالثقة، مما سيزيد من صلابته ضد الهجمات وسيُعزِّز من طبيعته المقاوِمة للهشاشة. وفي كل الأحوال، فالاعتقاد بأن الحكومات قادرةٌ على حظر البيتكوين إذا أصبح تهديداً حقيقياً للعملات الاحتياطية العالمية، هو سبب غير منطقي لاستبعاده كتقنيةٍ لحفظ المدخرات. ونجد هنا أن كِلا الادعاءين يتجاهلا الحقيقة بأن البيتكوين ناجع وجدير بالثقة كنقد، وفي الوقت نفسه يتجاهلا الأسباب الرئيسية لذلك: وهما اللامركزية ومقاومة الرقابة. لنتخيل أن شخصاً ما يدرك أهمية أفضل ابتكارٍ في عصرنا الحالي، ولكنه لا يستغل هذه الفائدة التي يوفرها له البيتكوين لخوفه من الحكومات. عندها وعلى الأغلب يمكن قول الآتي، إما أن يفهم هذا الفرد سبب عمل البيتكوين، وأنه لن يفشل بسبب الحكومات، أو أن هناك فجوة معرفية جوهرية بطريقة عمل البيتكوين في عقل ذلك الفرد. لهذا، لنبدأ بفهم الأساسيات، ثم لنقم بتطبيقها كمرجعٍ وأساسٍ لتقييم أي مخاطرٍ محتملة قد تنشأ بسبب التدخلات الحكومية أو الجهات التنظيمية مستقبلاً. ويجب ألا نستبعد أبداً قيمة الاختلاف والتباين؛ فالحركة الوحيدة الرابحة هنا هي المشاركة باللعبة.
المقالة الأصلية: Bitcoin Cannot be Banned
الكاتب الأصلي: Parker Lewis
ترجمة: أحمد محمد حمدان